تصبحون على انتحار

تصبحون على انتحار…

تعصبُّنا جريمة بحق الإنسانية. من أين أبدأ؟ يا ليتنا نعامل بعضنا البعض على مبدأ الإنسانية والرحمة، لكنا أصبحنا بألف خير. أسئلة كثيرة تحيرني. متى سنتوقف عن العيش في مجتمعات مليئة بالتدين ولكن فارغة من الإيمان؟ متى سنتوقف عن معاملة المرأة برداءة وكأنها أقل وعياً وكفاءة من الرجل؟ متى سنتوقف عن إنكار تخلفنا وكرهنا للاختلاف؟ متى سنتوقف عن نعت من يصاب بأمراض نفسية بالـ “مجنون/ة”؟ متى سنتوقف عن إعطاء الأمراض السرطانية كناية “هداك المرض”؟ متى سنتوقف عن الانتقاد والحقد والتعنيف؟ متى سنتحلى بالشجاعة لتسمية الأمور كما هي دون خوف؟ ومتى سنتذكر أننا بشرٌ جميعاً ونتوقف عن تشويه إنسانيتنا؟

لقد مللت قراءة آراء تعسفية تمسّ بحرية الآخرين، وتنبذ وجودهم؛ آراء لا تأخذ في الاعتبار تجارب الناس وصراعاتهم الشخصية، وصدماتهم النفسية أو حتى نشأتهم الحياتية وبيئتهم الاجتماعية. فمن المؤسف أن انعدام الإنسانية في مجتمعاتنا قد ردعنا عن تفهُّم الصعوبات التي نعيشها والضغوط النفسية التي قد تؤدي إلى الانتحار. بعد قراءة بعض ردود الفعل حول وفاة سارة حجازي، ومحمد علي الهق، وسامر الحبلي، أصابتني حالة من الاشمئزاز تجاه مجتمعاتنا العربية. أحاول بجهد أن أتفهّم بعض المواقف. ولكنني مصرّة أن علينا أن نفهم ونناقش الأسباب الاجتماعية، والنفسية والبيولوجية (التي أساساً تختلف بين شخص وآخر) والتي تؤدي إلى فكرة (فترة ما قبل) الانتحار، قبل أن ننشر آرائنا التي لا تعكس إلا تجاربنا، وذلك من أجل تحقيق التوعية الصحية وتنفيذ الوقاية من الانتحار. أؤكد لهؤلاء الذين يظنون أنّ الحديث الصحي عن الانتحار يؤدي إلى دورة معدية من المزيد من حالات الانتحار، أنَّ هذه الفكرة ليست إلا أسطورة، رغم عمق جذورها الراسخة في مجتمعاتنا. فتشجيعنا للتحدث عن الانتحار لا يعني أبداً تشجيعنا على القيام بالفعل. فنحن نطمح من خلال النقاش الصحّي والبنّاء أن نعلّم ونبني جيلاً يحترم الإنسان/ة الآخر ويقدّر الاختلاف والتنوع، ويفهم أشكال العنف (اللفظي والجسدي)، وتأثيره على نفسية الأفراد. يجدر علينا أن نذكر أنَّ غمامة الصمت التي تحوم حول مواضيع كموضوع الانتحار، تشكِّل عائقاً أساسياً للتطور الفكري في مجتمعاتنا. فعلينا بذلك أن نسعى لتعليم أبنائنا وبناتنا الفكر الحر، وثقافة تقبُّل الآخر، وعلينا كذلك أن نشجّع على نشر مناهج تعليمية تحاكي إنسانيتنا بدلاً من أن تدمرها.

حالة سارة حجازي

موت سارة حجازي ليس مجرد انتحار. كانت سارة ضحية مجتمعاتنا الذكورية المليئة بالكراهية والجهل. ففي ٢٠١٧، اعتقلت السلطات المصرية سارة لأنها حملت علم “قوس القزح” الذي يرمز إلى مجتمع الميم (المثليين جنسياً، ومزدوجي الميل الجنسي، والمتحولين جنسيًا، والعابرين جندرياً)، ولم يتم الإفراج عنها إلا بعد ثلاثة أشهر. أسلوب السلطات المصرية (والسلطات العربية بشكل عام) وهمجيتها ليسا بالأمر السري، لا بل هناك عدد كبير من الوثائق القاطعة والأفلام الوثائقية والأبحاث الجامعية والكتب التي تكشف أساليب القمع المستمرة في مصر وسائر الدول العربية والإسلامية، ومنها تقارير منظمة العفو الدولية التي تنتقد فيها انتهاك السلطات المصرية لحقوق الإنسان بطريقة تعسفية وعشوائية. حتى بعد هجرة سارة إلى كندا، استمرت السلطات المصرية بمطاردتها، ناهيكم عن الإساءة بشتّى أنواعها التي تعرضت لها سارة من المجتمع المصري (أو لربما العالم العربي ككل).

هنا أريد أن أوضح أمراً مهماً، خاصةً بعد قراءة بعض التعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي: الهجرة إلى بلاد الغرب ليست علاجاً للاكتئاب أو للأمراض النفسية. فعلى سبيل المثل، إن مريض ال HIV في البلدان العربية لن يشفى تلقائياً من آلامه ومرضه عند الهجرة إلى بلد غربي أو إلى بلد أكثر تقبلاً لهذا المرض. فإذاً، عند إدلائنا بتصريحات على نسق “لماذا انتحرت؟ فهي قد هربت من بلاد القمع إلى بلاد الحرية” نكون قد ألغينا التجربة الشخصية، والعامل النفسي والصدمات النفسية التي يتلقاها الفرد. تكمن نقطة البداية في إدراك المجتمع وتقبّله أنَّ واقع الاكتئاب، ومختلف الأمراض النفسية، لا يقل أهميةً عن سائر الأمراض الجسدية. بعد ذلك يمكننا أن ننتقل إلى نقطة التحول التي تكون في توفر العلاج. مجتمعاتنا تفتقر إذاً بشكل أساسي إلى مسألة الفكر الواعي، والمعرفة والثقافة. 

عودةً إلى حالة سارة، من الطبيعي أن تؤدي كل هذه العوامل العدوانية والصدمات النفسية التي تلقتها — سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة — إلى الانعزال والاكتئاب. 

حالة محمد علي الهق

“أنا مش كافر” كانت آخر جملة كتبها محمد علي الهق قبل أن يقدم على الانتحار، مرفقاً إياها بسجله العدلي. وعلى الرغم من أن لا حكم عليه، فإنَّ الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في لبنان حكمت عليه بالموت حكماً باتاً غير قابل للطعن. ولم يكنموت محمد خارجاً عن المألوف أو وليد اللحظة. فإن كانت الطلقة النارية قضت على حياته، فهي لم تكن إلا الطلقة الأخيرة من مجموعة طلقات وجّهَها إليه الوضع المعيشي والاقتصادي المزري في لبنان، مما أدى إلى تفاقم حالة الاكتئاب والبؤس لديه.

فغلاء المعيشة — طلقة، وانقطاع الكهرباء — طلقة، وشحّ المياه — طلقة، ووباء الكورونا — طلقة، ومجموعة هذه الطلقات، وغيرها، هي بمثابة موت بطيء كانت خاتمته طلقة نارية مبثوثة باليأس. وعلى الرغم من أن طريقة انتحار محمد تختلف عن طريقة سارة، فإنَّ العوارض نفسها: اكتئاب، ويأس وإرهاق عصبي. إنّه الموت البطيء الذي يأتي على دفعات. محمد، كسارة، ضحية مجتمعاتنا النيوليبيرالية ومؤسسات الدولة العاجزة عن تأمين أبسط حقوق المواطن.

حالة سامر الحبلي

لم يكن موت محمد علي الهق الكارثة الوحيدة التي شهدها لبنان. فالمواطن سامر الحبلي اندفع أيضاً إلى الموت بالانتحار، ووُجد مشنوقاً في منزله في جدرا، بالقرب من صيدا، جنوب لبنان. سامر، الزوج والأب أولاً والمواطن والعامل العمومي ثانياً، عانى ضائقة مالية أدّت الى تدهور حالته النفسية والجسدية. ولكن هل كانت لتراود سامر فكرة الانتحار إن توفرت له حياة معيشية أسهل؟ وهل كان قرر الانتحار فجأةً دون التفكير المسبق، أم أنّ الوجع المعيشي الذي مرَّ به، أشعل داخله نيران اليأس والاكتئاب؟

إستنادا الى جمعية EMBRACE، التي أسَّست أول خط وطني للمساعدة العاطفية والوقاية من الانتحار في لبنان، فإنّ محاولةً للانتحار تحصل كل ست ساعات. وقد سجلت الجمعية أيضاً أنَّ بين آذار ونيسان 2020، كانت نسبة المكالمات الواردة إلى الخط الوطني بسبب الضغوط النفسية الناجمة عن وباء الكورونا بين 20٪ و26٪ على التوالي من مجموع المكالمات.

الاكتئاب والانتحار

إنَّ حالات الانتحار الذي ذكرتها، بصرف النظر عن اختلافها التنفيذي، تبقى نقاطها متشابهة أو مشتركة في بعض الأحيان كالحالة الاجتماعية، والاقتصادية، والبيولوجية، والصدمات النفسية، والظروف الصعبة، واليأس، والضغوط النفسية، والانعزال الاجتماعي، والهجرة والشعور المؤلم بالغربة. حتى إذا كان الشعور بالغربة أساسه الوطن، فكم منا عاش (أو لا يزال يعيش) في بلده، لكنه في الحقيقة مغرّب ومسلوب من أبسط حقوقه؟ وكم سارة، ومحمد، وسامر، سيرحلون قبل أن نبدأ بوضع خطة إنقاذ للأزمة الاقتصادية والإنسانية التي نعيشها ونقرر أخيراً الاهتمام بقضايا الصحة النفسية؟ 

للتوضيح: الاكتئاب مرض له خصائص تشخيصية محددة ومختلفة. فمن عوارض الاكتئاب أنَّه يصعّب على الإنسان/ة أداء وظائفه/ا وممارسة هواياته/ا ومواصلة علاقاته/ا الاجتماعية، ويخفّض طاقة المرء، ويزيد شعوره بالذنب أو ضعف قيمة الذات، ويزيد من اضطرابات النوم أو الشهية لديه، ويؤثر حتى على قدرة المرء على القيام بأبسط الأمور. ووفقًا لأبحاث وبيانات منظمة الصحة العالمية الأخيرة، فإنَّ الاكتئاب يؤثر على 350 مليون شخص في العالم، وهو أعلى بنسبة ٥٠٪ للإناث مقارنةً بالذكور (منظمة الصحة العالمية، ٢٠٠٨). ويختلف الاكتئاب عن حالات الحزن أو اعتلالات المزاج العابرة التي يمرّ بها أي شخص بسبب ظروف الحياة. بالإضافة إلى العوامل المذكورة أعلاه، يستمرّ الاكتئاب لفترة طويلة ويوميّة، وفي أسوأ حالاته، يمكن أن يؤدي إلى الانتحار. 

الانتحار يشبه مشاكل الصحة العامة الأخرى، ويجب علينا أن نتعلم كيفية تجنبه، فهناك عدة عوامل مرتبطة بالانتحار. وقد سبق وذكرت بعض العوامل النفسية والاجتماعية التي قد تشكل عائقاً على حياة الفرد واستمرارها.

فتعليقاً على الحالة الاجتماعية التي تؤثر على حياة كل فرد من أفراد المجتمع، والتي لا تقتصر فقط على مجتمع الميم، أكّد عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم قائلاً: “إنّ أحد أسباب الانتحار يكون نتيجة تكسر الروابط الاجتماعية والانعزال، وقد تؤثر أيضاً عوامل الضغوط النفسية وعدم القدرة على كبحها”.

من الناحية الدينية، للأسف، لا تزال مجتمعاتنا الإسلامية و/أو العربية (وحتى بعض الأديان المسيحية الغربية واليمينية سياسياً) تتجنب الحديث عن الأمراض والصحة النفسية وبالأخصّ الانتحار — مع العلم أنَّ مجتمعاتنا العربية الآن في أمسّ الحاجة إلى تسليط الضوء على الأمراض النفسية وأهمية ارتباطها وتأثيرها على الصحة الجسدية وتطور المجتمع. بعيداً عن الجدل، وبما أنَّ الأمراض النفسية (الاكتئاب، والأعصاب، والهوس، وغيرها) تنطبق عليها خصائص الأمراض، فالاكتئاب إذاً قد يصيب أي شخص بغضّ النظر عن قوة إيمانه، أو ضعفه، أو حتى عدمه.

عندما نفقد إنسانيتنا، نفقد إيماننا وكل أدياننا تلقائياً. وعندما نتبع الأمور بطريقة دوغمائية، حينها لا يمكننا أن ندّعي الإيمان و/أو التدين، بل يستحسن القول إننا دوغمائييون؛ إننا متعصبون لأفكارنا وتقاليدنا، وإننا نمارس الحقيقة المطلقة دائماً ولا نتقبل أي رأي يناقض أفكارنا.

أريد أن أوضّح أن مجتمعاتنا لا تخلو أبداً من الأشخاص المثقفين، والمفكرين، وأصحاب الرأي الواعي، ولكن للأسف حقيقة الأمور واضحة، ولا يمكننا ان نغضّ الطرف عن كون الجهل والتعصب لا يزالان يهيمنان على واقعنا. 

أخيراً، أود أن أرسل تحيةً إلى أصحاب العقول النيّرة والقلوب المؤمنة التي تتحفظ فقط عن نفسها، ولكن تتقبل الرأي الآخر. فتحيةً إلى العقول التي تقدّر الاختلاف وترتقي لتبتعد عن التخلف؛ العقول التي تعي أننا خُلقنا لنتعايش، والتي تدرك معنى العدالة في زمن ولّى فيه الظلم، والعقول التي ترفع كلماتها وتنطقها في وجه الصمت.